هويــة واستعمار

Advance of Inner Paint


يقول باولو فريري في الصفحات الأولى من كتابه “تعليم المقهورين”: أحيانا يكون أفضل للمضطَهَد أن لا يعلم أنه مضطَهَد. يكتب فريري بضع جمل بسيطة، ويتركك لأفكارك
أتأمل هذه الجملة وأتساءل: إلى أي مدى يعرف مجتمعي (الفلسطيني الأصلاني في الداخل المحتل) أنه مضطهَد؟ من أي ناحية؟ وما هو المعنى الحقيقي للاضطهاد؟
هل هو في عدم توفر مؤسسات وأماكن ترفيهية كافية؟ في قلة الميزانيات التي “تتكرّم” علينا الكنيست بها؟ في هدم البيوت؟ أم في قلة فرص العمل؟ الاضطهاد لا يأتي بالضرورة على شكل تقليص في الأشياء، وإنما في انعدامها وفي حرمانك منها بالكامل وعدم معرفتك بوجودها. قد يكون أبشع هذا الإضطهاد هو “النسيان الاجتماعي”: تغييب تاريخ شعبك وبالتالي تشويه هويتك
هذا ما عملت عليه مؤسسات الدولة منذ عام 1948 وحتى اليوم، خاصة في جهاز التربية والتعليم. عملت على تخطيط منهاج تعليمي يستثني ما يمت بصلة بتاريخ المجتمع الفلسطيني، وينتقي مضامين تعليمية مشوهة يعرض تاريخه مبتورا
عندما أفتح القنوات الإخبارية الفلسطينية في الداخل، قلما أسمع جملة “المجتمع الفلسطيني”، بل يستخدمون عبارات أخرى: “المجتمع العربي في إسرائيل”، أو “الوسط العربي”، وكأننا صرنا عربا فقط ولسنا جزءا من الشعب الفلسطيني الممتد من الداخل المحتل، إلى الضفة وغزة، إلى البلدان العربية، وحتى بقاع الأرض كلها، حيث فلسطينيو الشتات
هل درسنا يوما عن تجربة فلسطينيي الشتات ومعاناتهم وتنقلاتهم في العالم بمثل ما درسونا إجبارا عن تجربة المحرقة؟ هل تحدثوا عن هذا في “ماكنات الوعي” التي تُسمى مدارس؟
يتساءل البعض ساخرا حين ينزلون إلى مظاهرات مطالبة بالمساواة والعدل: لماذا يُرفع العلم الفلسطيني؟ هل هذا وقته؟ وكأنه لا علاقة لنا بهذا العلم، لا علاقة لحقوقنا المتجذرة في القضية الفلسطينية. يطالبون بحقوق مدنية وزيادة في الميزانيات وفرص العمل وفرص النجاة.. باتت هذه نضالاتنا.. أن نكون واقعيين ونتحدى ما فُرض علينا من خلال حقوق مدنية تتلاعب بها حكومة اسرائيلية. رغم أن المعادلة كانت واضحة أمامنا طيلة الوقت، نحن نحصل على فُتات من حقوق، تتبجح بها اسرائيل بالقول إنها ديموقراطية، تحمي حقوق الأقليات جميعها. لكن لم يستطع أي سياسي فلسطيني في الكنيست الإسرائيلي أن يكون مؤثرا في اتخاذ قرارات عليا. نحن خارج لعبة السياسة. هم من يصنعون القوانين وهم من يغيرونها إذا شاءوا

عندما تخرج من هذه القوقعة الإسرائيلية وماكناتها الأيديولوجية إلى أحد بقاع الأرض، تلتقي بفلسطينيين آخرين في العالم، مهجّرين تنقلوا من دولة لأخرى، لم يعرفوا معنى الاستقرار.. لكنهم حتى الجيل الرابع منهم يعرفون تاريخهم. ترى شابا أسمر اللون في العشرين من عمره، يضم شعره الطويل ويربطه، تنقّل من الكويت إلى تشيلي إلى الولايات المتحدة ثم استقر في كندا. تسأله: من أين أنت؟ فيجيبك بعاطفة لا تُخفى: من يافا.. رغم أنه لم يرها في حياته
حين تلتقي بأمازيغ من شمال إفريقيا، من المغرب والجزائر، وترى تأثير الاستعمار الفرنسي عليهم وما ملأوا به رؤوسهم في مؤسسات تعليم موجّهة، تتساءل عن إمكانية وجود استعمار آخر في وعيك
حين تلتقي بمن بقيوا صدفة من السكان الأصليين في كندا، أو أمريكا، أو البرازيل، وترى ما خلّفه الاستعمار الأوروبي فيهم من قهر وفقر وتشويه هوية وشعور بالدونية، تتعاطف معهم دون أن تدرك، ثم تفهم مع الوقت أنك لستَ غريبا عنهم، بل ترى نفسك فيهم.. أنت أيضا من السكان الأصليين، لكن أحدا لم يعطك هذا اللقب، لم يعطوك فرصة التفكير في هذا وأنت في قوقعة أيديولوجية محكمة الصنع. قليلون نجحوا في مواجهة تساؤلاتهم وتأمل هويتهم من الخارج
ما يختلف قليلا في حال السكّان الأصليين في العالم عن حالنا في إسرائيل، هو اعتراف بعض الدول الغربية بخطئها واعتذارها لهؤلاء الناس، محاولين تعويضهم عن ما فات من خسارات. اعتذر الرئيس الكندي ترودو قبل أعوام عما ارتكبته الحكومات الكندية المتعاقبة في حق السكان الأصليين من إجرام وقمع، خاصة في أنظمة المدارس. ترى فعاليات أسبوعية مخصصة لرفع الوعي حول القهر الذي تعرض له السكان الأصليون. تقرأ مقالات عن هذا المجال، وتتابع مبادرات اجتماعية تهدف إلى تحسين أوضاعهم، احترام تراثهم، وضمه إلى المنهاج التعليمي ليعمَم على جميع الطلاب
أين نحن من كل هذا في البلاد؟ ونحن بالكاد نعرف لغتنا؟ معدلات اللغة العربية في الحضيض. تُرسخ الحكومة الإسرائيلية الهوية اليهودية ولغتها العبرية، هي ذات الخطة التي اتبعتها الصهيونية في بدايات هجرة اليهود إلى فلسطين. يشعر الطالب الفلسطيني بغربة في مدرسته. غربة عن مواد دراسية لا تمثله ولا ينتمي إليها.
يتعاملون معنا على أننا عبء أو أقلية غير مرغوب بها. “إن لم يعجبك الأمر هنا، اذهب إلى دولة عربية أخرى.” نحن بالكاد نعلم أصلا حقنا كسكّان أصليين في البلاد، نطالب بحقوقنا كأقلية مهمشة.. يصبح نضالنا على بناء مشفى أو مدرسة. نتلعثم تارة فنقول إننا عرب 48، أو الوسط العربي أو عرب اسرائيل، لا لا الفلسطينيون في اسرائيل؟ يرد عليك يهودي: لماذا تقول فلسطيني؟ هل تريد فلسطين؟ اذهب إليها. إنها هناك
نعم صارت هناك.. في حدود تتقلص، وتتقلص معها مطالبك. هي هناك، في وعي يتلاشى، يضمحل، يصاب بداء “الزهايمر الاجتماعي”، فيناضل من أجل فتات حقوق. يتشبث الناس بطوق نجاة يرميه إلينا سياسيون. يحاول البعض أن يصدق هذه المرة، وللمرة الأخيرة فقط، شعاراتهم البائسة، بأنهم سيناضلون في الكنيست الإسرائيلي ضد الفاشية
قد تكون هذه صورة قاتمة للمجتمع الفلسطيني في بلاده، ولكنها لا تعكس الجميع بالطبع، هنالك أصوات وأقلام واعية تحاول أن تنشر نورها على الآخرين. تجربتنا كفلسطينيين لاجئين في موطنهم لا تختلف كثيرا عن تجارب شعوب عاشت تحت وطأة الاستعمار. ما يبقى أمامنا كبصيص أمل ربما هو خلق قيادة واعية صلبة، لا تخلط الأوراق، تعرف جيدا أن تميز بين الاستجداء والمقاومة